كان غيابها عن البيت أمر لا يصدق! فمنذ مات زوجها و هي أم رؤوف، ترعى أبنائها بحنان و جلد و صبر ،و لم يتوقع أحد يوما أن تتخلى عنهم أو أن تتركهم.رغم تقدم بعض الرجال بطلب الزواج منها ،منهم من أراد أن يكفل الأيتام و يظفر بخادمة زهيدة الأجر لا يتعدي أجرها ثمن ما تأكله يوميا. و منهم من أراد مربية لأولاده و لا بأس من أن ينفق على أولادها في المقابل و منهم من كان يطمع في مبلغ التعويض الزهيد الذي صرفه العمل عن وفاة والد الأيتام و هو يؤدي عمله في المصنع.
قرأت سعاد كل هذه الأهداف في عيون من تقدم للزاوج منها و اثرت أن تنفرد بأولادها جانبا، تكد معهم في دفع عجلة الأيام الى الأمام و كان كلها أمل أن يظهر لها الزمن وجها بشوشا غير ما رأت منه
و عندما جاء الصباح و استيقظ أولادها فلم يجدوها في البيت و هي قد خرجت في المساء لشراء الخبز و الحليب - ككل ليلة-و احضار بنطلون سامح من عند الخياط حيث سقط على ركبتيه فتقطع البنطلون و كان يحتاج الى علاج سريع لثقب ليس سببه الاحتكاك في الارض و حسب و إنما بسبب بلاء القماش في أغلب الظن، لأن البنطلون كان ملكا للأخ الأكبر عادل قبل أن يضيق عليه أو يكبر سامح و يأخذه
و تعجبت سلوى كيف لم تحضر أمي و قد وعدتني بشراء كراسة جديدة عوضا عن كراستي المنتهية و قلم رصاص طويل بمحاية ملتحمة فيه
ذهبت سلوى و ضقت جرس جارتهم أم أيمن و سألتها : ماما عندكم
ردت أم أيمن و هي تمضغ اللبانة كعادتها غير مكترثة: و ايه حيجيبها عندنا على الصبح كده(!)
سلوى في خوف ممزوج بالدهشة: أصلها من ساعة ما راحت تشتري العيش و اللبن مرجعتش من ليلة امبارح
الست أم أيمن و هي تدفع الباب ملتفتة الى الداخل: الغايب حجته معاه!.
فازداد عجب سلوى
أين ذهبت أمي
!!!!!
و ما هى الا دقائق وكان الشارع كله يعلم أن الست سعاد لم تبت في بيتها منذ ليلة أمس- بعد ممارسة أم أيمن لهوايتها
و بعد أن ارتدى عادل و سامح و أختهم سلوى ملابس المدرسة خرجوا من البيت متجهين الى المدرسة، و لم يتركهم أحد من سكان الشارع و الا و سألهم: أمكم راحت فين؟؟؟
و لم يسلموا من بعض الايمائات و التعليقات و التعجب الذي ملئ أعين و صدور الجميع
و أنتظر الكل عودتها
و لكنها لم تعد
و إنما عاد الأولاد من المدرسة جائعين ،فهم لم يفطروا ككل يوم و لم يأخذوا سندوتشات الحلاوة الدافئة التي اعتادت أمهم أن تعدها لهم كل صباح.
عادوا ليجدوها لم تعد
فتح عادل الباب بالمفتاح الذي يربطه في خيط حول رقبته
و قالوا جميعا في صوت واحد:
ماما ..يا ماما ..احنا جينا
و لكن لم يرتد لهم صوتها كلل يوم: اهلا يا حبايبي
و تبادرت الأفكار في أذهانهم الصغيرة
هل تخلت أمنا عنا؟ هل رحلت لتتزوج و ترتاح من همنا؟ هل ملت من طلباتنا و شكوانا و شجارنا المتواصل؟!أين ذهبت؟!و هل ستعود؟
أقسم عادل أنها إن عادت لن يتشاجر مع أخيه سامح و يضربه حتى لا تبكي أمه
و أقسم سامح أنه لن يبلل فراشه و يجعلها تحمل المرتبة ككل يوم الي السطح لتجففها الشمس
و أقسمت سلوى أنها لن تبكي كل يوم و تمتنع عن شرب الشاي بالحليب بل ستشربه كله حتى تكبر و تفرح أمها
بحثوا عن شئ يؤكل فلم يجدوا
أرسل لهم الجيران ما تيسرمن غداءهم، و لكن البطون جائعة و النفس حزينة فمن له رغبة في الغداء؟!
ساعات و ساعات مرت كحمل ثقيل و كلما مر الوقت ازداد يقين الأولاد بأن أمهم لن تعود
الست سعاد..كانت قد خرجت بعد صلاة العشاء لتشتري لأولادها الخبز و الحليب و أغراضهم البسيطة،و كانت تحلم بغد أفضل، و أولاد بارين ناجحين,و لكن عمر بيه ابن الواحدة و العشرين و الفتى المدلل لأمه و ابيه لم يمهلها أن ترى أحلامها حقيقة
فقد كان يقود سيارته على سرعة 120 داخل شارع صغير فصدمها بقوة،رفعتها الصدمة الى أعلى و اسقطتها على الأرض فانقطع كيس الحليب و اختلط بدمها و انفرط الخبز يمينا و يسارا
و ماتت الست سعاد محتضنة كراسة سلوى و قلمها و ماتت معها أحلامها
و لأنها من البسطاء ،غطاها المارة بالجرائد و لم يستدل أحد على شخصيتها ،و ظل جميع من يعرفها يظن أنها هربت أو رحلت و استغنت عن أولادها
إلا نحن ...فنحن نعلم بقوة أنها ماتت شهيدة
ربما--تستكمل--