Thursday, May 14, 2009

يوم الغسيل

نادرا ما يحدث أن ينقلك صوت ما أو نص ما إلى أعوام سبقت و يغلفك بحالة من الشجن ، و تتداعى عليك الذكريات حتى تنقل لك رائحة أو طعما مرت عليه سنوات لم تشمه أو تتذوقه

هذا ما حدث بعد قرائتي لموضوع(من قلب البانيو أتحدث) للزميل المدون (يا مراكبي)

و ذكرني موضوعه بيوم الغسيل

ذلك اليوم الذي مر عليه اكثر من خمسة و عشرون عاما و قبل شراء الغسالة الفول اوتوماتيك

هو في الواقع ليس يوما واحدا و انما ..يوم و ليلة

كانت أمي في الليل تفرز الغسيل، و تفصل الأبيض عن الملون ،و تنقعه في بستيلا الومنيوم ،و تضعها فوق البابور و تضع فيها كل ما تيسر من صابون مبشور و بطاس ،و ذلك قبل انتشار السافو و الكلور

و تنبعث من هذا الخليط رائحة فريدة تغمر انفي الان و ان كنت لم اشمها من زمن بعيد!

و تظل امي تبعدنا انا و أخي و تحذرنا من الاقتراب من المياة المغلية مشفقة علينا من لهبها غير مكترثة بالعرق المتصبب من جبينها الناعم

فتنصح مرة و تزجر مرة و نحن يغمرنا الفضول لنعرف ماذا يسلق في هذه البستلة !

و في الصباح.. و أنا انعم بالنوم في فراش نظيف هادئ، كانت أمي تستيقظ مبكرة لتلحق اليوم من أوله و يبدأ مشوار الغسيل المزعج

فتنتشل الغسيل المنقوع في البستلة بعصاية الغلية الخشب و التي كان لها احيانا مآرب أخرى كالتأديب و التهذيب و الإصلاح

تنتشله بها حتى لا يطال أصابعها الحبيبة مسحوق البطاس الفتاك و التي كانت لا تسلم منه يداها الطيبة

لتضعه في الغسالة (ام عين واحدة) و تبدا رحلة اللف و التكريك

فقد كانت ذات صوت مميز يسمعه البعيد قبل القريب ،و كانت في أوقات كثيرة تصدر ماسا كهربيا يؤلم أمي؛ و لكن لا يردعها عن اكمال مهمتها العظيمة في تنظيف ملابسنا المتسخة

و تبدأ رحلة الشطف في بستله أخرى و من بعدها التزهير في كروانة ثانية

و نستيقظ من النوم لنجد الحمام مبللا مليئا بالغسيل المترنح بين الشطف و التزهير

فنتأفف و نزمجر... اية الدوشة دي .... اي المية دي.... بنطلون بجامتي اتبل و كنت حتزحلق

فلا اجد من أمي الا عبارة :اقلعي الهدوم دي خليني اغسلها بالمرة

و يا ويل من نام و راحت عليه نومه يوم الغسيل

يستيقظ فيجد أمي قد شدت الملاية من تحته ،و خلعت البيجاما و ما تحتها الا القليل ،و اذا حاول ان يبحث عن ملابس أخرى على الشماعة يجدها قد اعتقلت هي الأخرى من أجل ان(تغسل بالمرة)

و تظل أمي في هذه المعركة، بين العصر و النشر بملابسها المبتله و التي لا تريد ان تغيرها بأخرى جافة حتى تنتهي ،غير مهتمة بالبرد و كل ما يشغل اهتمامها في اللحظة الراهنة هو أن ترى الغسيل يشف و يرف على الحبال و ترانا نرتدي ملابس نظيفة تشع منها رائحة النظافة

ربما تظن أمي أني نسيت هذه الأيام !و نسيت هذا الإصبع المطاطي التي كانت ترتديه في اصبعها عندما يلتهب من البطاس حتى لا تصل اليه المياة فتزيد التهابه ،و هذا الإصبع المطاطي كان يثير فضولي و احسبه بالونا احب ان اختلسه منها لأنفخ فيه فأفرقعه و احرمها من الوقاية الوحيدة من فتك البطاس الذي إن كان ينظف ملابسنا ..فهو يهري أصابعها الحبيبة

و ينتهي فوم الغسيل الابيض لتغير أمي مياه الغسالة بأخرى نظيفة ليبدا فوم الغسيل الملون

و هكذا دواليك.. إلى أن ينتهي ماتش الغسيل و أرى أيدي أمي الغالية و أرجلها قد باشت من الماء و الصابون و البطاس و أشعر بالألم في ظهرها و أرجلها

و اتعجب من ابتسامة الرضا في عينها !!و التي لم أفهم سببها حتى كبرت و احسست بها ،عندما اقدم لزوجي و ابنائي جهدا، فاشعر بلذة العطاء و امتزاجه بالوجع

كان زمان ..يوم الغسيل يوما شاقا مؤلما على أمي ،و ان كانت لم تشتكي يوما، بعكس اليوم نضع الغسيل في الغسالة فيخرج شبه جاف و مع ذلك نكسل ان ننشره و نبحث عن شغالة تقوم بهذا الدور

حالة من الشجن.. تفوح منها رائحة البطاس و الصابون الممزوجة برائحة الجاز المحترق و لون النظافة و صوت البابور و عصاية الغلية تقلب في الغسالة الايديال القديمة

لا اشتاق الى اي منها و انما اشتاق الى العظيمة الحبيبة الدافئة أمي و التي نسجت بروعتها ذكريات طفولتي بقمة عطائها

اتمنى أن تقترب المسافات و أعود اليها اطبع قبلة دافئة على يديها و خديها حبا و عرفانا

يا رب ..يا رب.. يا رب يبارك في صحتك يا أمي و يعوضك عما قدمتي لنا حلاوة إيمان تجديها في قلبك العطوف و يسعد أيامك و يحسن خاتمتك أنتي و أبي الفاضل الحبيب

كنتم مع

يوم الغسيل

مرشته لكم

كلبوزة لكن سمباتيك